رائعتي،
لم اكتب اليك منذ أشهر. لم أنسى، ولم أبخل. كل ما في الامر، ان ثمّة فرق ما بين غابات الحضور وصحراء الغياب. ما بين حرارة الجرح وحرارة التطبّب منه. ما بين نور العتمة ونور الضوء.
ذاك المساء المنفرد في صخبه، حسبت انّ وَقع نبضك قد تاه مني.. وانّ الطريق لم يؤدي اليك.. وانني على مسافة طويلة من مساحات الشريان التقيت بواحدة تشبهك.. نفس ملامحك، نفس ابتسامتك، ونفس شالك... الا ان روحا سكنتني لم التقيها فيها.. كأني اضعت فرصة البقاء الأخيرة..
ولملمت أشلاء حلمي وحاولت ان امضي.. الى اين؟ لا اعرف.. بعدك كل الدروب القادمة واحدة.. لا تختلف..
ما أصعب ان تنتهي الى اللاشىء.. فتبدو كأنك حدث غريب في الزمان والمكان الغريبين..
لقد صِرتِ تفاصيلَ لمفاصلي، فاتكأتْ عليك لتخطو.. لتمرّ في زحمة الاحداث.. بين كثرة الوجوه والارواح.. وبعضها يريد ان يتّسع لي بالقدر الذي يرضينى.. وتأبى مفاصلي، وتواصل الاتكاء عليك..
وصرت نافذة أرى من خلالها عالمي الذي حاولت كتابته.. فأوقفني حضورك المفاجئ في دمي.. دون اذن.. ولا تدبير..
وصرت معجم لغتي.. ازن بك إيقاع كلماتي.. وازينها.. وازرعها في ذاكرة الورد.. وعلى اجنحة الحمام..
وبعد ان صرت كل هذا لم أتوقع بان لا التقيك في نهاية الطريق.. او ان انتهي الى لقاء امرأة تشبهك.. وكنت احسبها انت..
ولم أتوقع بان يسقط الجسر الذي كان بيني وبينك، الذي كان يعبر منه كل منا الى الاخر.. او ان يقفز أحدنا منه إحساسا بالغربة.. والحيرة.. فهل صرنا حقا غرباء.. لا انت وجدتني ولا انا وجدتك برغم الحضور..
لست أدرى يا سيدتي.. كأنا كنا نحتاج الى حدث مهما لكي يعيد ترتيب ساعاتنا، واحساسنا.. حدث يكسر الجمود الذي اختزل حضورنا في الغربة..
وحدث هذا.. منذ بدايات الفجر..
كنت قلقا الى حد آلام الرأس.. ولم أتوقع بان افتح التلفاز بصوت عال.. لاطلع على اخبار العرب.. واخبار إيران وما فعلت بهما أمريكا..
واخبار السودان واليمن.. والجزائر وسوريا والعراق وتونس وفلسطين.. وهل خلا شبر واحد من ارض العروبة بلا وجع...
ولم اقرأ صحف اليوم.. ولم اكتب شيئا يستحق..
ضياع يقتلني..
شيء واحد يحفر في دقائقي.. ما أصعب وقعه.. هو أنت..
اين أنت؟ لما تلك المسافة وضعت اوزراها بيننا؟ لما اتركك بعيدا.. فتنهشني وتنهشك الافتراضات.. ولما انت رحلت دون اذني..
ويمرّ الوقت كوخز في الروح..
تحادثنا كأني التقي بك على ما كنتِ.. منذ اول مرّة..
لم يكن للمسافة وقع.. ولم يكن لأحداث الطريق وقع.. ولم يكن لقرارات الغضب وقع.. لم يتغير شيء.. فأنت حبيبتي التي اعرف.. او التي عرفت روحي.. انت السنديانة التي طلعت بقدر في حدائق شراييني.. فلم تعد تتسع لغيرها..
أخبرتني عن احداث اليوم.. وانتظرناها معا.. دقيقة بدقيقة وساعة بساعة..
الى حد المساء.. رأيت بعينيك عتابا كبيرا.. فانا الحاضر الغائب.. وكان واجبا ان أكون هناك.. لكني اعتذرت..
وفي لحظات اخذوك مني الى رحلة قصيرة.. سأسجلها بذاكرتي.. ولن تسجل بذاكرتك الى الابد.. سترحلين معهم لبعض الوقت ثم تعودي..
وانت تغادرين.. قلت لك انني انتظر ابتسامتك.. فلا تتأخري كثيرا..
وبقيت وحدي. تخيلت المشهد كاملا.
ستستلقين قليلا... وتضاء امام عينيك أضواء كثيرة.. تتذكرين في تفاصيلها حديثنا وكلماتنا الأخيرة.. ثم يباغتك النوم لساعة، او الساعة والنصف.. لا حلم فيها.. سيكتب الواقع جرحا بسيطا على تفاصيلك.. وفي لحظات تستفيقين.. والغريب سيكون حولك بعض ممن لا تعرفينهم.. ستبحثين في وجوههم عني.. لن تجدينني.. ولكنك ستبتسمين لأنني انتظر ابتسامتك.. ولأنك وعدتك..
سيحول الوقت بينك وبين الكتابة للحظات.. ستكتب الي رفيقة دربك.. لتعلمني بانك عدت.. وأنك تبتسمين..
واني انتظر..
هذي رسالتي قبل ان تعودي.. وبعدها سأكتب اليك وقد عدت.. ولن نفترق ابدا..
من المخلص اليك
مع تحياتي
د. محجوب احمد قاهري