إمرأة محتلّة !
جلست أمامه كقديسة تحمل عبئ وجع قديم.. وعباءتها
السوداء ترافق بسمتها الموغلة في الغموض، فلا هي من القلب، ولا هي من الشفاه !..
نظرت في عينيه القلقتين، وقالت بصوت خافت، ألا يَحمل
الحبّ الصادق في تفاصيله بدايات العجز؟ انّ أوّله احتلال، وآخره سلب للارادة.
ان الحبّ أفضع احتلال يعيشه الأنسان، فهو ينطلق من الذات،
يحاصرها، يدميها، ولا يمنحها الخلاص. انه توغّل في الألم الذي لا يطاق، ولا يحتمل.
وهو أشدّ وقعا من احتلال الدول، واكثر دمارا مما أحدثته قنابل هيروشيما
وناكازاكي.. ينفجر في الشرايين فيحطمها الى الأبد...
يا للهول، كم يعاني العاشق !، ومن يحرّره؟ وهو مسلوب
الأرادة، عاجز، لا يمتلك قراره.. ينتظر لفتة، كلمة، رسالة، ينتظر مكالمة، ينتظر
موعدا.. وقد يطول انتظاره الى الأبد..
وأنا أحمل جواز سفري، وانتقل من مكان الى مكان، من سماء
الى سماء، من وجوه الى وجوه، من عيون تراقبني الى أخرى تحاول انتهاكي، كنت أحملك
وحدك في قلبي، في عيني، في جسدي.. كنت تدميني، وتعذّبني.. وكنت أحلم بلقاءك،
وادعوا لك في اطراف الليل..
يومها كنت صبية خذلها القدر، وخذلها صمتها، وخذلها
الفراق.. وخذلتها انت دون ان تعلم !..
صبيّة عُمر قلبها، بسنوات الحب، عام أو إثنين.. أذكر
جيّدا يوم مولدي، كان يوم التقينا لأوّل مرّة، سلّمت عليك، فرددتَ السلام ومضيت..
عندها فقط أحسست بوجود قلبي، واني لا أحيا بدونه.. عندها فقط أدركت بانني ضُعت الى
الأبد.. فقد سكنتني دون أن تكون معي... وقتلتني دون أن تعرف..
من يومها أكتمل عجزي، وقد تمّ احتلالي في بضع دقائق،
احتلال انا مسرحه، وانا ضحيته الوحيدة...
تلك الصبية التي أحبّتْك، ولا زالت، لم تتحرّر منك بعدُ..
فأنت أعظم وأفضع احتلال شهده قلبها، بحضور الأنسانية جمعاء، وغيابك..
كم وددت لو أهرب منك.. لو ألقيك في البحر وأخلص منك.. لو
تغيب من عيني كما تغيب شمس آفلة.. لكنك كنت تعود.. تعود بشوق وحنين، يهزني،
يربكني، يضرم النار في فؤادي، ويحيلني الى أشلاء.. وحطام..
كل فكرة خلاص منك، كانت تشبه الأنتحار.. وما أجبنني
حينما أفكر في الخلاص منك.. كنت أعود بكل ألمي، الى ذكرياتي القديمة، أبحث في
تفاصيلها، عن بعض أمل، أو شبه أمل، أو حتى اضطر الى اختراع كذبة حبّك لي.. وابتسم،
كأنّي أحقق نصرا.. ولكن على من؟
يوم هاجرت، أعلنتُ بانني امرأة محتلة، تحتاج الى معجزة
لأنقاذها وتحريرها...
حلمي الجميل
(يتبع)
د. محجوب احمد قاهري
من حلمي الجميل
ردحذف