أينما ألقيت ببصري
على كامل تراب الوطن العربي، الاّ ورأيت فوضى
وقتلى ومشرّدين، وطوائف، وعصابات قتل باسم الله. ورأيت أمّة تقف على قناطير مقنطرة
من الثروات، لكنها جائعة، حافية، عارية، ومن شبع منها ولبس فهو عبد عند الأمم
الأخرى، وتابعا لا معنى له، الاّ إذا فتح جيبه للراقصات والغانيات والتافهات.
وكل هذه المعاني
يجمع بينها شئ واحد، هو الجهل. إننا أمّة الجهل بامتياز. جاهل جاهلنا، وجاهل
مثقفنا، وجاهلة نخبتنا. وما بين هذا الجهل وذاك الجهل تنحدر هذه الأمة إلى قاع
الضياع دون عودة.
عامتنا لا عقول
لها. وهي تمثل أغلبية سكان الوطن العربي، التي تفوق نسبة الأمية فيه الخمسين
بالمائة.
جاءتني امرأة في
عقدها الخامس، تشتك من الإصابة بالالتهاب الكبدي المزمن نوع "ب"، المثبت
مخبريا، فأكّدت لها بأن الدواء والمتابعة الطبية هما الحل. لكن المرأة أصرّت بأن
"العرّاف" لدية الحل، الذي لم نقرأه نحن في كليات الطب، ولن نفهمه أبدا.
ومضت الى العراف ليربط لها في عنقها خيطا به سبع عقد، وأمرها بان تقوم بحل عقدة كل
يوم، وعند آخر عقدة سيكون الشفاء. وحذّرها، شديد التحذير، من أن تنسى فكّ العقد
تتابعا، كل ّ يوم. وفعلت المرأة. وعادت الي لتقول، بأنها تحس بالشفاء يسري في كامل
جسمها وهي الآن أحسن.
طلبت منها اعادة
التحليل المخبري مرّة أخرى، فكانت التحاليل أسوأ مما كانت عليه. الاّ أن المرأة لم
تصدّق حتى التحاليل. فهي تتعافى حسب قولها !!!... وسقط
العلم والطب والتحليل عند قناعتها.
امرأة اخرى تعاني
من وجود حصيات بمرارتها، وهو ما ثبت بالفحص بالصدى، وهو ما يتطلّب التدخل الجراحي
لاستئصال كيس المرارة بحصياته. الاّ إنها أصرّت على الذهاب إلى
"الوقّاعة"، التي بإمكانها نزع الحصيات بدون جراحة، فهي تطلب من المريض
ابتلاع خيط، ويبقى طرفه خارج الفم، ثم تقوم بسحبه بعد ذلك لتخرج معه الحصيات. وعادت
المرأة في قمة الفرح، مستهزئة باقتراح الجراح كحل وحيد. وحين طلبنا اعادة الفحص
بالصدى، لم تتردّد، وعندما وجدنا الحصيات في اماكنها، لم تصدّق.
و لا يقتصر هذا
الجهل على عامتنا، فللمثقفين والنخبة نصيب. والأمثلة على ذلك عديدة ومتنوعة.
أباطرة اتحاد
العمال الأشهر ينجزون 35 ألف إضراب في اقل من سنتين، ويطالبون بالزيادة في الأجور !! فأي جهل
هذا، انه الجهل المركّب، وهو الأكثر خطورة، وأكثر فتكا بكلّ الأمة.
أعضاء المجلس
التأسيسي يسقطون قانون العزل السياسي، ليعيدون النظام القديم للتحكّم في المشهد
السياسي بأكمله، ثمّ يخرجون علينا مستغربين من عودة الأزلام !! ورئيس هذا
المجلس يختفي من مكتبه قانون العزل السياسي، ثمّ يأمر بغلق أبواب المجلس في وجوه
زملاءه النواب، إلى أن تسقط الحكومة، ويعود الأزلام !!
الأحزاب المحسوبة
على المعارضة، تضع يديها في يد النظام القديم لأسقاط النظام الجديد، فيسقط الجميع
خاضعين خانعين أمام زبانية القديم. ثمّ يخرجون لإلقاء التهم على الثوار مثلهم !!
عميد كلّية بأكملها، أستاذ جامعي، ومفكر، يغلق أبواب الكلية لأشهر من أجل فتاة تلبس النقاب، وتحوّل
المشهد برمته الى فوضى، إلى ضارب ومضروب، إلى مصائب واقتتال داخل الحرم الجامعي.
ولو كان لهذا "العميد" علم أو معرفة، لكان حلّ الأشكال، إن كان هناك إشكال، بهدوء وروية، بحكمة أستاذ جامعي !.
وهل من جهل أكثر
من شعوب تسقط دكتاتوريات عنيدة، مقيتة، ظالمة ومدمرة، ثمّ تعيدها إلى الحكم مرّة
أخرى بعد أن تدفع الدم والجراح في سبيل إسقاطها.
سوف لن تفهم شيئا
خارج سياق الجهل، إنها أمّة الجهل بامتياز.
ولعل الصراع
الدائر حاليا ما بين اختيار المرشح الثوري للرئاسة، الدكتور المرزوقي، أمام كل
ماكينات مرشحي النظام القديم، لأكبر دليل على إن الجهل هو سبب تعاستنا. فكيف للمرء
أن يناصر جلاّد الأمس !!. ومن كان يراهن على الديمقراطية فسيخسر، لأن
الرهان الحقيقي سيكون على بناء العقل اولا وأخيرا.
يلعن أبو الجهل...
فلقد خسرنا الكثير و لا زلنا نخسر بسببه.