كانت "ماريا" خمسينية العمر، قصيرة القامة، ذات شعر قصير وخفيف، تخفي نظارتها السميكة عينين خضراوين باردتين.. كانت قليلة الكلام، الا في اختصاصها، وإذا تحدثت فيه، فإنها لا تكاد تصمت لغزارة علمها وأدبها.. كان اختصاصها في الحضارات الشرقية.. وكانت تعلم ما لا يعلم عن بلاده..
كانت لا تشبهها كثيرا.. الا انها تحمل منها الكثير..
الغرفة مكتظة بأنفاسها.. يكاد يجزم بانها واقفة امامه، عطرها، صوتها، عنادها... رقتها حينما تناديه...
طاولتها الصغيرة، في الجانب الأيمن من الغرفة، لم تتحول من مكانها.. لونها الازرق الفاتح لا يزال حيا.. كتابان يسكنان المكان... واحد لساتر، وآخر لهمونقواي.. ودفتر صغير واقف في وسط الطاولة.. كأنه يناديه...
استأذن من ماريا النظر فيه.. ماريا لا ترد له طلبا.. اومأت برأسها موافقة، ثم غادرت الغرفة..
جلس على كرسيها، وضع الدفتر بين يديه، نزل عليه غيابها في لحظات كموت.. لا يعرف هل دمعت عيناه او هو عرق تصبب من وجهه..
فتح الدفتر.. في آخر صفحة مكتوبة، وجد اسمه ملقى بين الورق... وقد كتبت تحته: ليتك تحبني مثلما أحببتك.. وليتك لا تنساني مهما حدث...
وكأن يد وضعت على كتفه.. انها يد "ماريا".. هم بالخروج من الغرفة.. فاعترضه الشال الأحمر المعلق..
وكان ليل مرسيليا قد أوغل في متاهته...
د. محجوب احمد قاهري
طبيب وكاتب تونسي